سلسلة خطب الجمعة: أرشيف لله ثم للتاريخ دروس من أحداث غزة الجريحة 6

سلسلة خطب الجمعة: أرشيف لله ثم للتاريخ دروس من أحداث غزة الجريحة 6  : 09 صفر 1430هـ/06 جانفي2009م

                                      انتبه :   الصراع واحد . .إنما الاختلاف في التوقيت فحسب . . 

الاستفتاح بخطبة الحاجة،ثم أما بعد :  معشر المؤمنين : درسُنا في هذه الجمعة: تأصيلٌ وإرساءٌ لمبدأ قرآني عظيم،هو من أصول الإيمان ومن قضايا العقيدة الكبيرة،مبدأٌ قامت عليه عزَّةُ المسلمين يوم قام في القلوب والأعمال،وغادرتهم تلكَ العزَّةُ والمَنَعة يوم خانُوا هذا الأصلَ الأصيلَ واستبدلُوه .. إنهُ تحقيقُ مبدأ الولاء للإيمان و المؤمنين والبراءة من الكفر و الكافرين بالقلب واللسان والعمل .  .
  هذا المبدأ الأصيلُ،وتلك الصخرةُ العتيدة،ليسَ حرفًا يلفظُ،ولا شعارًا يُحفظ،ليسَ لُعبةً يتلهَّى بها المسلمُ كما يتلهَّى الصغيرُ بلعبته،ولا شعارًا يتغنَّى به كما يتغنَّى الشاعرُ بالبيت الجميل،بل هو عقيدةٌ راسخةٌ في الضمير ينطقُ بها اللسان و تتحرَّكُ بها الجوارحُ الإسلاميةُ في واقع الحياة،تتحرَّكُ بها بالرحمة والحب والموالاة والإعانة والنصرة والتأييد مع المسلم في السراء والضراء في المنشط والمكره،وتتحرك بها بالبغض والعداوة والبراءة وترك الإعانة والتأييد مع عدو الله ورسوله والمؤمنين كائنًا من كان في الحياة..!    
  هذا الأصلُ الأصيلُ هو ما حفظَ للأمَّة بيضَتَها،وجمعَ لها بأسَها وقوَّتَها،فكانت مَخُوفةً مرهوبة لا يُستهانُ بأمرها . .    
   يقول اللهُ تعالى في التأصيل لمبدأ الولاء بين المؤمنين :)وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض( (التوبة:71) ،    ويقول النبيr: " المسلمون تتكافأ دماؤهم،يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم يرد مُشِدُّهُم على ضعيفهم ومتسرعهم على قاعدهم "(حسن صحيح:سنن أبي داود 2751) .و قال رسول الله r:"من أعطى لله،ومنع لله،وأحب لله،وأبغض لله،فقد استكمل إيمانَهُ"[1]. وقال سبحانه محذّرًا من موالاة الكافرين : )لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْء( (آل عمران28) . و قال سبحانه:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾ (المائدة:51).وقال سبحانه :) وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً((النساء:89).وقال تعالى: ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيما(138)الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعا(( النساء :138- 139)،
وقال تعالى:) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُون((المائدة81) .
أيها الإخوة في الله:  الولاءُ للمؤمنين والبراءُ من الكافرين هو الصورة الفعلية للتطبيق الواقعي للإيمان،إذا أردت أن تعرفَ وتقيسَ قوة إيمان العبد أو الجماعة أو الهيئة فانظُر ولاءَها للمؤمنين وبراءَها من الكافرين في واقع مواقفها وتصرفاتها،ستعرفُ حينها حقيقةَ موقفها من الإيمان،إذ أنَّهُ لا يمكن أن يجتمع إيمانٌ صادقٌ وموالاةٌ للكافرين أبدَ الآبدين . . إلا في قلب المنافق الذي لم يتعرَّف حقيقةَ الإيمان بعد.. !
   قال الشيخ محمد بنُ عبد الوهاب-رحمه الله-:" إنَّ الإنسانَ لا يستقيمُ له إسلامٌ ولو وحَّدَ اللهَ وتركَ الشرك إلا بعداوة المشركين،والتصريح لهم بالعداوة والبغض كما قال تعالى في سورة المجادلة:) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَان( "[2] .   
أيها الإخوةُ في الله : في الحوادث التي مرَّت بغزةَ الجريحة ظهر  "الطابور الخامس " الذي ينتمي في الظاهر للأمة وقضاياها،وهو في  الباطن والحقيقة عينٌ لغيرها عليها في المنطقة،يحقق لها- بإخلاصه ووفائه الشديد- ما لم تكن تحلمُ به في يوم من الأيام.  .  هذا الطابور الخبيث فضحه اللهُ فضيحةً ما بعدها فضيحة في هذه الأحداث الجريحة ..!   
  رأيتُمُ  خُذلانَ المؤمنين بأبشع صور الخُذلان من طرف الجار و الصديق في الدار .. رأيتُم تواطُأً عجيبًا على دمائهم وقادتهم وأرزاقهم وأقواتهم وقضيَّتهم . . رأيتُم رُكونًا و مداهنةً في المقابل للكافرين وحُسنَ مجاملة بالقول والفعل على حساب الدين والدماء السائلة والأعراض المنتهَكَة . . رأيتُم اتّخاذ الكافرين بطانةً من دون المؤمنين  يطلعونهم على الأسرار و على ما لا يُطلعون عليه المؤمنين  . . رأيتم مضاحكةً ومصافحةً وبشاشةً للكافرين وقت تقتيلهم للمؤمنين وانتهاكهم للأعراض والأوطان(وقد أثَّر فيكم موقفُ أردوغان لأنَّهُ خرجَ عن هذا الخطّ المألوف في العرب)  . .رأيتُم مناصرةً واضحةً لا تستحي لليهود والكافرين على الحدود المصريَّة  . .رأيتم تجسسًا لا يستحي لصالح الكافرين على المؤمنين ونقلاً للعورات والأسرار ... رأيتُم تباطُأً عجيبًا في عقد المؤتمرات التي تكون لصالح القضية،والسرعةَ العجيبة في عقد المؤتمرات التي تكونُ لصالح العدُو . .
   أحسبُكم –بفضل الله- قد فهمتم الموضوع واستفدتم ،فنسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى،أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
أنقلكُم إلى الزمن الأول،زمن الرجال الذين عرفوا هذه العقيدة حقَّ المعرفة فوالوا المؤمنين وعادوا الكافرين واعتزوا بالله عليهم ،تأملوا هذه القصَّةَ لتعرفوا حقيقةَ الإيمان حين يُشرقُ مداهُ في القلوب والدُّروب :
   إنها قصَّةُ دُخول ربعي بن عامرt على رُستُم  :   في المجلس كان الفُرسُ مدجَّجين بالسلاح وعليهم التيجانُ والثيابُ المنسوجةُ بالذَّهب،فأقبلَ ربعيُّ بن عامر على فرس له،معهُ سيفٌ ليسَ له غمد،إنَّما هي لفافةُ ثوب قديم يضعُ فيها سيفهُ البتَّار،ويحملُ رُمحًا في يده،وعلى ظهره ترسٌ وقوس،لما انتهى إلى المجلس دخل بالفرس،فلم ينزل إلا مواجهًا لرُستُم،أرادُوا أن يمنعوهُ فقال: اتركُوه،قالوا لهُ: ضع سلاحكَ،قال: إنّي لم آتِكُم لأضعَ سلاحي بأمرِكم أنتم دعوتُموني،فإن أبيتُم أن آتيكُم كما أريدُ رجعت،فقال لهم رُستُم: دَعُوه،إنَّما هو رجلٌ واحد!،فأقبل ربعي يتوكَّأُ على رُمحه يَزُجُّ النَّمارقَ والبُسُط،فما تركَ لهم نمرَقةً ولا بساطًا إلاَّ أفسدهُ،فلما دنا من رُستم،جلسَ على الأرض وركَّزَ رُمحهُ بالبُسُط،فقالوا: اجلس على الأريكة،قال: إنَّا لا نستحِبُّ القُعودَ على زينتِكم هذه!،فكلمه رُستم فقال: ما جاء بكم ؟،قال:" الله ابتعثنا واللهُ جاءَ بنا،لنُخرجَ من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد،ومن ضيق الدنيا إلى سعتها،ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام،فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوَهم إليه،فمن قبلَ منَّا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه،وتركناهُ وأرضهُ يليها دوننا،ومن أبى قاتلناهُ أبدَا،حتى نُفضي إلى موعود الله . قال رُستُم : وما موعودُ الله ؟ قال: الجنَّة ،الجنَّةُ لمن ماتَ على قتال من أبى والظَّفرُ لمن بقي . قال رُستُم : قد سمعتُ مقالتكم فهل لكم ان تؤخِّرُوا هذا الأمرَ حتى ننظُرَ فيه وتنظُروا ؟ قال نعم،كم أحبَّ إليكُم؟ يومًا أو يومين ؟،قال : لا ،بل حتَّى نُكاتبَ أهلَ رأينا ورؤساءَ قومنا . وأرادَ رُستُم مقاربةَ ربعيَّ بنَ عامر-أي يضعَ عليه يدهُ كما يضعُ الصديقُ يدهُ على صديقه ليُكلِّمَهُ في أذُنه- فقال ربعي: إليك،إنَّ مما سنَّ لنا رسولُ اللهr وعملَ به أئِمَّتُنا ألاَّ نُمَكِّنَ للأعداء من آذانِنا،ولا نؤَجِّلَهُم عند اللقاءِ أكثرَ من ثلاث،فنحنُ متردِّدُونَ عنكم ثلاثًا،فانظُر في أمركَ وأمرهم،واختر واحدةً من ثلاث بعد الأجل: الإسلامَ فندعكَ وأرضك،أو الجزاءَ فنقبل ونكُفَّ عنك،وإن كنتَ عن نصرنا غنيًّا تركناكَ منه،وإن كنتَ إليه محتاجًا منعناك،قال: فما الثالث  ؟، قال: أو المنابذةَ في اليوم الرابع،ولسنا نبدأُكَ فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلاَّ أن تبدأنا،وأنا كفيلٌ لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى . قال: أسيُّدُهم أنت ؟ قال: لا،ولكنَّ المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض يُجيرُ أدناهُم على أعلاهم "(تاريخ الطبري 3/519-520) .
  أقولُ –معشر المؤمنين- :
    واسمحوا لي على الجُرأة في القول وليسامحني ربعيُّ بنُ عامرt - قارنوا بين ربعي بن عامرt في مفاوضاته وبين بعض مفاوضِي اليوم على القضية الفلسطينية،إذا أحسنتم المقارنة أحسنتم فهم القضية،ولا تعليق..!!
    نسأل الله التوفيقَ إلى ما يحب ويرضى  . .  اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين  . .
  



 
 
 
 
         








[1] - حسن: سنن الترمذي(2521)،الصحيحة(380).
[2] - مجموعة التوحيد (ص19)-ط دار الفكر بالقاهرة .

هل أعجبك الموضوع ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2015 © ملتقى النبلاء / المبرمج يوسف حجاب