خطبة الجمعة : متى يكونُ الاستعجالُ محمودًا ؟ .

خطبة الجمعة  : متى يكونُ الاستعجالُ محمودًا ؟  .
الاستفتاح بخطبة الحاجة ، ثم أما بعد :
     معشر المؤمنين  : 
   حديثُنا في هذه الجمعة مُلحةٌ فقهيَّة شرعيَّةٌ نافعة ، والمُلحةُ تعني الفائدةَ الكريمةَ العزيزةَ التي تولَّدت عن بحث ونظر وسَبرٍ لأغوار الأبواب والفصول . . وهي من أحسن ما يتسابقُ في بيانها العلماء الربَّانيون تسهيلاً للعلم علينا وتقريبًا لأبوابه وفصوله المتناثرة . .
  تعلمون - معشر الأحبَّةِ - :
   أنَّ خُلُقَ الأناةِ والتريُّثِ محمودٌ في كلِّ شيء،ولا يزالُ النَّاسُ يُزَكُّون من جُبلت طباعُهُ على هذا الخُلُق الكريم فظهرت في أقواله وأفعاله فيقولون :" هذا الشخصُ حكيمٌ كريم " ،ولم يزَل النَّاسُ ينفُرُون ممَّن تميَّزت طباعهُ بالتسرُّعِ والعجَلَةِ فيقولون هذا شخصٌ " عجولٌ متسرِّعٌ ليس من أهل الحكمة والاتِّزان ". .والناسُ ينسبون العجَلةَ للشيطان لأنَّهُ بها معروف وينسبون الأناةَ للإيمان لأنَّها من أخلاقه وشمائله . .
   في عام الوفود قدم أناسٌ على النبيِّr هم بنُو عبد قيس،وهم من خيرة العرب،وكان فيهم رجلٌ هو خيرُهم يقالُ لهُ : أشجُّ عبد القيس " منذر بنُ عائذ "، هؤلاء القوم حينما وصلوا المدينةَ من شدَّة فرحهم تركوا الجمال وأقبلوا على النبيr في مسجده بثياب السفر المُغبَرَّة ،اللهم إلاَّ صاحبَهم منذرَ بنَ عائذ " أشج عبد القيس "،فإنَّهُ تأخَّر حتى جمع  جِمَالَهم ثم أناخها وحط أحمالها وجمع متاعها ثم أخرج عيبةً له وألقى عنه ثياب السفر ولبس حلةً ثم أقبل يمشي مترسلا،فسألهم النبي r عن سيدهم وزعيمهم وصاحب أمرهم ؟" فأشاروا بأجمعهم إليه ،فلما انتهى وجلس إلى النبيr،وأخذ وأعطى في الحديث والجواب،قال له النبيr :"  يا أشج إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والتؤدة "،قال : يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما ؟، قال :" بل الله جبلك عليهما " ، قال :" الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله " (رواه مسلم وغيره) .
      فخُلُقُ الأناة والتؤُدة والتريُّث من صفات الحكيم التي يُحمدُ عليها العبد،اللهم إلاَّ في أبواب بعينها خرجت عن هذه القاعدة،و ذكرها العلماء في شكل مُلحة فقهية عنوانها : " الأبواب التي تُحمدُ فيها العجلَةُ والمسارعة  وتُذَمُّ فيها الأناةُ والتريُّثُ " ،هذه الأبواب كثيرةٌ نأخذُ منها ما تيسَّر ممَّا يدُلُّ على غيره بالبحث والسؤال..
  فأما البابُ الأوَّلُ الذي تُحمدُ فيه المسارعةُ والعجلة فهو " التوبةُ إلى الله U "  : المسارعةُ فيها محمودةٌ على كلِّ حال وهي من أخلاق المؤمنين،والتريُّثُ في التوبة والأناةُ فيها من أخلاق الغافلين المتساهلين المتلاعبين، فمن وجدتَهُ يقول : غدًا أتوب،أو غدًا أصلي ،أو بعد أن أرجعَ من السوق ،أو عندما أكبُر،أو حينما أتزوَّجُ سأتوب و أفعل،من وجدته يقول ذلك فاعلم انَّهُ جاهلٌ أحمق، وما الذي أدراهُ أنَّه سيرجعُ من السوق أو أنَّهُ سيكبُرُ ويتزوَّج،بل ما الذي أدراهُ أنَّهُ سيرجعُ إليه النَّفَسُ أم لا ؟ وهل سيفتحُ الغمضَةَ بعدَ الغمضَة،وهل سيُؤذَنُ له في دَقَّةِ القلب التالية أم لا ؟ فالمسارعةُ في التوبة والرجوع إلى الله تعالى من شيم الأخيار الموفَّقين والتأخيرُ فيها من أخلاق الغافلين المتساهلين  : قال تعالى: )وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين( (آل عمران133 ). 
ومن الأبواب التي تُحمدُ فيها المسارعةُ والعجلة : أداءُ الصلاة في أوَّل وقتها،فكُلَّما تعجَّلَ العبدُ في المحافظة على أوَّل الوقت كان أفضل وأحسن،ولم يزَل هذا الخُلُقُ من شيم الموفَّقين الصالحين،ولم يزَل تأخيرُ الصلاة عن أوَّل وقتها داعيًا إلى تأخيرها عن وقتها ثمَّ إلى تركها بالمَرَّة والعياذ بالله تعالى :فعن ابن مسعودt قال: قال رسول اللهr :"  أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها "(متفق عليه) . ومن هذا الباب التعجيل بالإفطار في الصوم عند أول الغروب تطبيقًا للسنَّة النبوية،قالr:" عجلوا الإفطار وأخروا السحور"(صحيح الجامع:3989) . ‌ 
ومن الأبواب التي تُحمدُ فيها المسارعةُ والعجلة : عبادةُ الحج،وقد يتساهلُ كثيرٌ من المسلمين فيها فيؤخِّرونها مع قُدرتهم عليها على أساس جعلها في آخر العُمر،أو على أساس أنَّها لا تحتاجُ إلى الاستعجال، وهذا خطأٌ كبير يحملُ عليه طولُ الأمل والاستهانةُ بقدر العَمَل والطاعة،فعن الفضل t قال:قال رسول اللهr :" من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرَضُ المريضُ وتضِلُّ الضالَّةُ وتعرِضُ الحاجة "(صحيح الجامع :6004).فمن وجدَ في نفسه القدرة المادية والبدنية فليتعجَّل بالتفكير والتسجيل في الحج عساهُ يرفعُ نفسهُ عند الله تعالى بإكمال أركان الدين وهو شابٌّ يافع .. فقد يضيعُ الشباب،وتضعفُ القوَّة وينشغل البال بالأولاد وهمومهم وبالسَّكن والاسمنت والحديد وغير ذلك من الهموم والقواطع..!    ‌   
أيها الإخوةُ في الله: ومن الأبواب التي تُحمدُ فيها المسارعةُ والعجلة :بابُ الوصيَّة : وهي تحوي مفردات كثيرة جدًّا أعظمُها حقوقُ الناس والديون التي عليك،فلا تقولنَّ غدًا إن شاء الله أوصي أو أكتبُ ما عليَّ من الديون،أو عندما أعودُ من السفر أكتبُ هذا الدَّين في كُنَّاشة الدُّيون،أو عندما أعودُ سأوصل هذه النقود لصاحبها،وما يُدريكَ أنَّكَ ستعودُ ؟ وما يُدريكَ أنَّكَ في الغد من الأحياء ؟ فعجِّل أخي بالوصيَّة المكتوبة أو الشفوية تطبيقًا لقوله r :" ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"( رواه البخاري ومسلم)، قال عبد الله بن عمر t : ما مرت عليًّ ليلة منذ سمعت رسول الله r قال ذلك إلا وعندي وصيتي . ////  عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال:لما حضر أُحدٌ – أي غزوة أحد - دعاني أبي من الليل فقال:  ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي r وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رسول الله r فإن عليًّ ديناً فاقض واستوص بأخواتك خيراً، فأصبحنا فكان أول قتيل .."  رواه البخاري.
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى،أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب ...
الخطبة الثانية :
 أيها الإخوة في الله : ومن الأبواب التي تُحمدُ فيها المسارعةُ والعجلة : تزويجُ المرأة إذا وجدت الكُفؤَ المُناسب،هذا مما يستحبُّ فيه التعجيلُ والمسارعة،إذا أتاكم من ترضونهُ في دينه وأخلاقه وكان قادرًا على الحياة الزوجية فزوِّجوه،إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض،دَعْكم من التباطُؤ و التريُّث المصطنع : [ مازالت صغيرة !  ..ما شبعتش بنتي ! ، مليح بَصَّح يسكُن في عنابة ..! ، مازال ما نفكرش في الزواج الآن..!!! ..] وما شابهَ ذلك من الأعذار والحجج الواهية التي تفتحُ باب الاستعجال فيما بعد في دفن البنت في أي مكان اتَّفق ..!  الواجب المبادرةُ بالتزويج متى ما صادفَت البنتُ الزوجَ المناسبَ المقبول،فإنَّ الزَّوجَ الممتازَ من الأحلام التي ولَّى زمانُها في جُملة ما ولَّى من الفضائل السامية ..!
ومن الأبواب التي تُحمدُ فيها المسارعةُ والعجلة :  التعجيلُ بالعودة إلى الأهل من السفر لمن أنهى حاجتهُ وقضى غايتَه،فالحكيمُ يُعجِّلُ بالرجوع إلى أهله ولا يزيدُ فوق الحاجة إيناسًا لأهله وأولاده وتطبيقًا لسنة المصطفىr،إذا خُيّرَ بين حافلة الخامسة صباحًا والخامسة مساءً اختار خامسةَ الصباح،لعلمه بالسنَّة ، قالr :" إذا قضى أحدكم حجه فليعجل الرحلةَ إلى أهله فإنه أعظم لأجره "(الصحيحة :1379)،وقالr :" إذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل الرجوع إلى أهله "( متفق عليه ).  ‌     
ومن الأبواب التي تُحمدُ فيها المسارعةُ والعجلة : التعجيلُ بالرجوع عن الخطأ وطلب العفو والصفح والمصالحة، فلم يزل هذا الخُلُقُ ميزَةً يرتفعَ بها العمالقةُ الكبار،ويستحي منها المرضَى الصغار،إذا أخطأت فعجِّل في الاعتراف وطلب العفو والصفح،إذا ساءت العلاقات فعجّل بإخراج الشيطان قبل أن يتحكَّم، لا تقل عند الغد إن شاء الله،أو عند أقرب فرصة،وما يدريكَ لعلَّ غدًا يأتي وأنتَ فقيدُ ..!،عجّل بالصلح وترك الهجر بينك وبين أخيك الذي وقعت بينكما مشاحنة،أو في الحياة الزوجية حين يتكدَّرُ الجوُّ بين الزوجين،وانظُر إلى قولهr يصفُ الزوجة الصالحة في حياتها الزوجية،قال : " ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة ؟، الودود الولود العَئُود التي إذا ظَلَمَت قالت : هذه يدي في يدك لا أذوق غمضا حتى ترضى "(صحيح الجامع :2604) . ‌ 
       نكتفي بهذا القَدر فهو يدلُّ على ما وراءَهُ من الأبواب التي يستحبُّ فيها الاستعجالُ سواءً كانت في الأخلاق أو الأحكام الشرعية أو العادات المَرْضيَّة  ...
     فنسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى ،اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا،وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين،وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه .           

                  






هل أعجبك الموضوع ؟

هناك تعليقان (2):

كافة الحقوق محفوظة 2015 © ملتقى النبلاء / المبرمج يوسف حجاب