سلسلة خطب جمعة " أرشيف لله ثم للتاريخ " :  " دروس من مجازر غزَّة 3.. 18 محرم 1430هـ/16 جانفي2009م.


      انتبه :   الصراع واحد . .إنما الاختلاف في التوقيت فحسب . . 

الاستفتاح بخطبة الحاجة،ثم أما بعد : أيها الإخوةُ في الله :
لا تزالُ الأوضاعُ في فلسطين تستوقفُ الناظرين،وتدعوهم للتبصُّر والتفكُّر،وهي أحداثٌ على مرارتها تُشعُّ بالدروس والعبر،وهذه طبيعة المآسي والأزمات عامَّة لا تخلُوا دائمًا من المنح والفوائد،فإلى تلك الدروس نُلقي السمعَ والشهادة :
درسُنا الأوَّل في هذه الجمعة :  واجب النصرة للمحتاج والمستضعف والجائع والمستغيث في الأمة عقيدة ينبغي أن تحيا في كل ضمير،كلُّ بما يستطيع وبما يجودُ به اتّساعُه،إذا وُجِدَت هذه العقيدة في الأمة فاعلم أنها لا تزال حيَّةً أبيّة،تشعر بالحنين وتسمع الأنين،وإذا غابت هذه العقيدة في الأمة فكبر عليها أربعا،وكفنها ووارها في مزبلة التاريخ وتربة النسيان..
  هذه صورة الأمة المسلمة حين تعيشُ حقيقةَ الإيمان الذي أنزله الله وارتضاه : قال رسول الله r: "المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد،يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان،كما يألم الرأس لما يصيب الجسد"[1]..و قال رسول الله r :"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم،مثَلُ الجسد الواحد؛إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
   لقد اتّسعت-أخي في الله- صُوَر هذه العقيدة في الأمة باتّساع حالات الاستغاثَة والاحتياج فيها :
فانظُر إليها في مستوى الشعور بأنين الجائعين- والجوعُ ألمٌ حقيقيٌّ لا يُحسُّ به المترفُون الذين يعيشون على الموائد الطويلة العريضة واللحوم  " المقليَّة والمصليَّة  " : قال رسول الله r:"ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع" . وقال r مُحَذِّرًا من نسيان الجائعين في الأمة المُحاصرين الذين لا يجدون كِسرَةَ خبز لأولادهم :"أيما أهلُ عَرَصَةٍ (أي حَيٍّ وساحة)أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله عز وجل". 
   أتدري ما معنى برئت منهم ذمَّةُ اللهU ؟، أي ارتفعت عنهم ذِمَّةُ الله وسترُهُ ورعايتُه ،فلا تسأل بعد ذلك عمَّا ينزِلُ بهم من الآفاتِ والحاجات ولا رافع لها ولا مُجيب ..! هذا في أهل حيّ صغير تجاهلوا مسكينًا واحدًا جائع ،فكيف إذا كان هذا من أمة كاملة
تسمعُ وتشاهدُ ظُلم شعبٍ مسلمٍ كامل وهي تقدرُ على رفعه على عدَّة مستويات وبمختلف الوسائل ولكنَّها لا تفعل..!  إلى اللهِ العظيمِ المشتكى..! بطونٌ ماتت من الجوع وبُطونٌ مرضت من اللحوم و التُّخمة .. أعينٌ تنام وأعينٌ لا تنام..أعينٌ لا تعرفُ الدُّموع.. وأعينٌ لا يرقأُ لها دمعْ..ولا يتحرَّكُ لها قلبٌ ولا سمعْ .. والكُلُّ يعلمْ،ولكنَّهُ يُعرِضُ و يكتُمْ..!  أهكذَا تتنَزَّلُ الرَّحمات؟ أم هكذا تُتَّقَى الآفاتُ وتُكشَفُ الكربات..؟!
على من تنادي ؟! أيَّهذَا المُكابدُ  * * ولم يبقَ في الميدان غيرُكَ شاهدُ
لقد أقفرت إلاَّ من الذُّلّ أرضُها * * فكلُّ نباتٍ يُطلـعُ الرَّملُ فاسدُ
وتلكَ الدُّمَى ليست رماحًا فتنتَخي * * ولا خيلُها يومَ الطِّراد تُطاردُ
بلى كانت الفصحى نشيدَ شِعابِها * * وكانت شموسُ المُدلجين القصائِدُ
ولكنََّها هانت على النفط وانحنت * * لتسلَمَ أمــوالٌ لها وفائِدُ  !!
على من تنادِي موسمُ النَّخوةِ انتهى ** وسوقُ عكاظٍ بالبضاعةِ كاسدُ
على من تنادي والأذَى يتبعُ الأذَى ** وأعداؤُكَ النَّملُ الذِي يتزايدُ ..!
 أيها الإخوةُ في الله : ومن صور تحرك هذه العقيدة في القلوب؛قُلوبِ الحُكَّام والمحكومين،الانتفاضُ للأعراض التي تُنتهك،وخاصَّةً أعراضِ المؤمنات،وكما تعلمون فإنَّ القتالَ عندَ العربيِّ الأصيلِ على " لمتاير ولحراير " ،وفي الإسلام قال النبيُّr :" من قتل دون أهله فهو شهيد "[5] .
 عندما تموتُ في الذُّكورِ الرجولةُ والمروءَةُ والشهامة والغَيرة فكبِّر عليهم تسعًا .. أو لا تُكبِّر عليهم أصلاً . . لأنَّهم لا يستحقُّون التكبير، فالتكبيرُ على الرِّجال .. ولا خير في ذَكَرٍ يفوقُهُ الكبشُ غيرةً ورجولة ..!   اقرؤوا تاريخ غزوة يهود بني قينقاع : جاءت امرأة من العرب بجَلَبٍ لها للسوق تبيعه،فباعته بسوق بني قينُقاع،وجلست إلى صائغ هناك يبيعُ الحُلي،فجعل اليهودُ يريدُونها على كشف وجهها فأبت،فعَمَدَ الصائغُ الخبيثُ على غفلةٍ منها فربط ثوبها من الخلف بشيء،فلمَّا قامت انكشفت وتعرَّت،فوثبَ حرٌّ من المسلمين على الصَّائغ  فقتله،وشدَّ اليهودُ على المسلم فقتلوه،ثم وقعت معركةٌ في السوق بين المسلمين واليهود . سمعُ النبيُّr بالخبر،النبيُّ العربيُّ الرَّجُل الشَّهم،فنبذَ إليهم العهد،وسارَ إليهم على الفور على رأس جيشٍ من المهاجرينَ والأنصار يومَ سَبْتِهِم للنصف من شوال من السنة الثانية للهجرة،يحملُ اللواء قاتلُ الأسودِ و سيِّدُ الشهداء حمزة بن عبد المُطَّلب t،فضربَ عليهم الحصار- مُوش هُوَّا اللي يحاصَر خاوتُو – ضربَ عليهم الحصار  وقطع عنهم كلَّ مَدَدْ خمسَ عشرةَ ليلة،واستمرَّ الحصارُ حتَّى قذَفَ اللهُ في قلوبهم الرُّعب واضطروا للنزول على حُكمهr،فأمرَ بهم فرُبِطُوا،فكانُوا يكَتَّفُون أكتافًا،واستعملَr على  كُتَّافِهم المنذرَ بنَ قُدَامةَ الأوسي،ثم أمهلهم ثلاثَ ساعات لا غير للرحيل عن المدينة قبل أن تتكلَّمَ السيوف، فأجلاهُم r وطردهم من المدينة إلى الشام و غنمَ أموالهم وديارهم[6]..  ما شاءَ الله  ...ما شاءَ الله . . ! ما أطيبَ روائحَ الرِّجال وما أطيبَ أخبارَهم ..!
اليوم –معشر المؤمنين- : الأسرى الفلسطينيون لدى اليهود أكثر من إحدى عشر ألف أسير عدد كبيرٌ منهم من النساء والصبايا والحرائر،تعريةٌ وتعذيب وحرمانٌ من النوم واغتصاب جماعيٌّ مستمر كجزء من الحرب النفسية على المسلمين، وفي العراق عشرات الآلاف من الأسيرات المسلمات في  معتقل الرصافة والخزيمة وغيرها من سجون الاحتلال يقاسين أفظعَ أنواع الهمجيَّة والقهر والعُهر،في كشمير يندى الجبين لحال المسلمات في السجون،ألّفت في ذلك كتبٌ وبحوثٌ موثَّقة،وعددٌ كبيرٌ منهنَّ يباعُ الآن في سوق النِّخاسة والدَّعارة في موسكو وغيرها،  منظمةُ العفو الدولية أصدرت تقريرًا لها  أكدت فيه اغتصاب 50 ألف فتاة مسلمة في البوسنة والعددُ يفوقُ ذلك بكثير، ومع ذلك فزعماءُ الدولِ العربية يشجبُون و يُعلنون عن أسفهم وقلقهم وحزنهم العميق تجاه ما يحدث في أخواتهم ..!!!  
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى،أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
أيها الإخوةُ في الله:  ومن صور تحرُّك هذه العقيدة في القلوب- قلوب الحُكَّام والمحكومين- الانتفاضُ للدّفاع وتحرير أيَّ شبرٍ من أرض المسلمين وقع تحت الاحتلال والأسر،وقد أجمع الفقهاء على أنََّ الجهادَ في حالة الدفع فرضُ عينٍ على جميع أهل البلد نساءً ورجالاً حتى يخرجَ العدوُّ من الشِّبر  المُحتل،فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم النَّجدةُ وجوبًا عينيًّا،فإن لم يكفُوا وجبَ على كل من علم بضعفهم الخروجُ للنجدة والنُّصرة ، لا خلافَ في هذا بين العلماء فالمسلمون كلهم يدٌ على من سواهم :  قال النبيُّ : " المسلمون تتكافأ دماؤهم،يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم يرد مُشِدُّهُم على ضعيفهم ومتسرعهم على قاعدهم "(حسن صحيح:سنن أبي داود 2751) .
اليومَ جهادُ الدَّفع في غَزَّةَ حقيقةٌ لا مريةَ فيها إلاَّ عندَ المخذّلين أو المنافقين أو العُميان ِالصُّمّ البُكم  الذينَ لا يلامُون على عدم السماع و الرؤية . . !
هذه غزَّةُ تستصرخُ و تقول :

ألم تروا يا بني الإسلام مشهــــدنا    *** ألم تروا حـُــرّةً تبكي وتنتحـــِــــبُ

ألم تروا جثث الأطفال كيف غــدت   *** أكوامَ لحمٍ فلا عظـــــمٌ ولا عَصَــــبُ

ألم تروا وجــــهَ أمٍّ حين أفزعَهَـــا *** دويُّ قصفٍ وقد أعـيا بها الهـَـــــرَبُ

ألم تحـــــرّكْ دِمَانَا في مَشَاعِرِكُــم *** معنى الأخــــوةِ يا من بالإخَــا كذبُوا

فهل أمِنْتُـــم من الأحداثِ تبغتـُــكُمْ *** أم هل لديكم لدى ربِّ العُلا نســـــبُ

فســـــوف يسألكم ربُّ الورى علناً *** عن التخـــــاذل في نسيان من نُكِبُـــوا
ولقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا   ولكن لا حياة لمن تنادي..!
نارٌ لو نفخت بها أضاءت    ولكن انت تنفخُ في رمادِ
    وكيفَ تستجيبُ الأمة أو تدافعُ عن إخوانها ضدَّ المحتلين،والأيادي ملطَّخةٌ بدماء الأبرياء والعَمَالة للأعداء،كيفَ تستجيبُ  والقواعدُ العسكرية الأميركية موزَّعةٌ في أغلب بلدان العالم العربي  ..!!!
نختمُ بالحديث عن الرّجال حتَّى لا تموتَ قلوبُنا كمدًا على حال المسلمين اليوم :
    هذا الملكُ المُظَفَّر المصري سيفُ الدِّين قُطُزْ – يوم كان لمصر ملوكٌ رجال - : جاءه رُسُلُ التتارِ-
وكان التتار قوَّةً حقيقية يُحسَبُ لها ألفُ حساب،ليسُوا كاليهود ربائبَ نعيم وعُشَّاقَ حياة  و جبناءَ في الحرب واللقاء -  جاءَهُ رسلُ التتار وهدَّدُوه برسالة بعضُ كلماتها : "إنَّ سيوفنا صواعق،وإنَّ رماحَنا بوارق،لا ترحمُ من شكا،ولا ترقُّ لمن بكى"،فاستشارَ الأمراءَ من حولِهِ فيما يجيبُ به التتار،فأشار معظمُهم بالتلطُّف معهم ودفع الجزيةِ إليهم كلَّ سنة،فغضبَ الملكُ وقال:"إنَّ الله يقول في كتابه:﴿ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون﴾ (التوبة:29).وأنتم تريدُون منَّا أن نعكسَ الآية،ثم قام إلى كبير أمرائه فاختطف منه السيف وكسره على ركبته ثم ألقاه أمامه وهو يقول:"إن السيف الذي يجبنُ حاملُهُ على القتال لخليقٌ أن يُكسَرَ هكذا ويُلقى في وجهِ صاحبه.." ثم بادر التتار بالقتال فهزمهم بإذن الله تعالى..[7]. ما شاءَ الله  ...ما شاءَ الله . .لا قُوَّةَ إلاَّ بالله . . ! رُكبةُ يُكسرُ عليها سيفٌ حربي تستحقُّ حكمَ بلادِ الله حقًّا  . ..  ما أطيبَ روائحَ الرِّجال وما أطيبَ أخبارَهم ..!     نسأل الله التوفيقَ إلى ما يحب ويرضى  . .  اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين  . .
    اللهم  كن لإخواننا المستضعفين في غزَّة وفي كل مكان / اللهم كن لهم عونًا ونصيرَا/ اللهم اكتُب لهم نَصْرَك / وأسْعِفهم بجُندِك/ وتوَلَّهم بقدرتك/ اللهم اشف مرضاهم/ واقبل شهداءَهم/ وعاف مبتلاهُم/ ارحم صغيرهم /وارأف بكبيرهم/ وصُن أعراضَهم ونساءَهم /و احفظ عقولهم وهمَّتَهُم يا ربَّ العالمين  .
   اللهم إنََّكَ ترى مكانَهم،وتُبصرُ حالَهم،قد تآمرَ عليهم القريبُ والبعيد،ولا يملكون إلا الدعاء، فخفِّف عنهم ما هم فيه،يا ربَّ المساكين،يا غياثَ المستغيثين/و يا رب العالمين .                     
اللهم إنَّهم قد انقطعت عنهم الأسباب، وأُغلقت في وُجوههم الأبواب ،خذلهم الجارُ والقريبُ والبعيد...فاللهم افتح عليهم نصرك بالأسباب وبغير الأسباب وبضدها ؟!
اللهم أنزل بأسك باليهود الغاصبين / أرنا فيهم يومًا أسودَا / تشفي به صُدورَ قوم مؤمنين / اللهم أنزل عليهم بأسَكَ وسخَطَك/وأرنا فيهم عجائبَ قُدرتك/يا جبار السموات والأرض/ يا قويُّ يا عزيز  .
اللهم مُنزلَ الكتاب،ومُجري السَّحاب/هازمَ الأحزابْ/  اجعل مع كل صاروخ قسَّام مَلَكًا من الملائكة،يسدّدُ رميَتَهم،ويزلزلُ على اليهود ديارهم، يا جبار السموات والأرض/ يا قويُّ يا عزيز / عزَّ جاهُك / وتقدَّست أسماؤُك .. يا رب... !   وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك،وصلّ اللهم وسلم وبارك على نبيّك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .   

  







[1] - الصحيحة(1137).
[2] -متفق عليه.
[3] - صحيح الأدب المفرد(82).
[4] - أخرجه الإمام أحمد(2/33)وصححه الشيخ أحمد شاكر(4880).
[5] - صحيح الجامع(6445) .
[6] -انظُر التفصيل في  السيرة للصلابي(2/82-87).
[7] - كبرى المعارك والفتوحات الإسلامية:محمد سعيد مرسي(ص145).

هل أعجبك الموضوع ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كافة الحقوق محفوظة 2015 © ملتقى النبلاء / المبرمج يوسف حجاب