سلسلة " لله ثم للتاريخ " دروس من مجازر غزة 4. .

سلسلة خطب جمعة " أرشيف لله ثم للتاريخ " دروس من مجازر غزة 4. .               25 محرم 1430هـ/23 جانفي2009م

                                                انتبه :   الصراع واحد . .إنما الاختلاف في التوقيت فحسب . . 

الاستفتاح بخطبة الحاجة،ثم أما بعد : أيها الإخوةُ في الله :
   إنَّ من أعظم ثمرات العقول نعمةُ التفكُّر والتدبُّر والاعتبار،وإنَّ عقلاً حُرِمَ نعمةَ الاتّعاظ والاعتبار لحريٌّ أن يُعدَّ صاحبُهُ في غير العُقلاء، ويندرجَ في غير الأحياء..  وفي أحداث الحرب الصهيونية على غزَّة دروسٌ وعبر للعقلاء والأحياء ،دروسٌ تستوقفُ النَّظَرَ وتستدعي التأمَّلَ والتفكُّر،لأنَّها ستتَكرَّرُ لا شكَّ في ذلك إنْ في فلسطين أو في غيرها،تحقيقًا لسنَّة الله الماضية : ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا (البقرة:217)،أي سوفَ يستمرُّون في قتالكم شئتُم أم أبيتُم،حتَّى لو دعوتُم للسلام و المصالحة وجَنَحتُم معهم للسلم فسوفَ يقاتلونَكم ،قال سبحانه :﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (البقرة:120)...
  هذه الأحداثُ الجريحةُ الدامية-على مرارتها- علَّمتنا الكثيرَ الكثير،كشفت حقائقَ وحقائق،لولا هذه الأحداثُ ما انكشفت ولا ظَهَرت،وهذه سُنَّة الله تعالى في إخراج المنحِ الجليلةِ من رحِمِ الابتلاءات والفتن.
   وقفتُنا الأولى على طريق التفكُّر والاعتبار : بيانُ حِكَمِ اللهِ تعالى في اصطدام الحق بالباطل،حكمٌ جليلةٌ لا يملكُ العبدُ أمامَها إلاَّ  الإيمانَ والتسليم،يصطدمُ الحقُّ المستضعفُ بالباطل المنتفش،ويشُدُّ اللهُ على أهل الحقّ شَدَّة ،فتُزهقُ أرواحٌ وتكونُ دموعٌ وآلام  وجِراح ،وهذه في حدّ ذاتها رحمة،ثم تُشرقُ شمسُ الانتصار، وإذا بها تظهرُ الرَّحَمَاتُ الحقيقيَّةُ بعد انجلاء الغُبار والدَّمار :
  من هذه الحكَم والرَّحَمَات : ردُّ اللهِ الكافرين بغيظهم وحقدهم لم ينالوا خيرَا،ردُّ هو في حدّ ذاته آيةٌ من آيات الله في انتصار الحقّ الصابر الثابت على الباطل المَزْهُوّ المُنتَفِش .
 من هذه الحكم والرحمات : اصطفاءُ الله تعالى للشهداء،وهو اصطفاءٌ لا بدَّ فيه من ضرب السيوف ومُصابَرة الحُتُوف وتطايُر الأعضاء والأُنُوف،وهل تظُنُّون طريقَ الشهادة سهلاً ميسورَا ..؟! ،أبدًا ليسَ ذلك كذلك فالسعلة غالية والثَّمنُ عزيز،لا يستطيعهُ أصحابُ القلوب المريضة ولا أربابُ الكُروش العريضة
هذا الاصطفاءُ - معشر المؤمنين-رحمةٌ من رحمات الله تعالى لا يكونُ إلا في الحرب،قتلانا في الجنَّة وقتلاهُم في النَّار،إنَّ سيّدَ الشُّهداء حمزةَ t بُقرَ بطنُهُ يوم أُحُد،وجُدع أنفهُ ومُثّلَ بجسده واحتملَ وحشيٌّ كبدَهُ إلى هند،فهل تراهُم أنقصوا من قدر حمزة ومنزلته؟،كلاَّ وحاشَا،هذا طريقُ الجنان لا بدَّ فيه من الثمن:قال رسول اللهr:" رأيتُ الملائكةَ تغسّلُ حمزةَ بن عبد المطلب"(صحيح الجامع:3463)،و قال r:"لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة؛تأكل من ثمارها،وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش،فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا:من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق،لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب؟فقال الله تعالى:أنا أبلغهم عنكم،فأنزل الله﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"[1].
  كم دفعت غزَّةُ في هذه الحرب  ؟،لم تدفع القتلى ولا الأشلاءَ ولا الأبناء ،بل دفعت ألفًا وثلاثُمِئة  شهيد ،بين عريس وعَرُوس في الجنَّة : في صحيح الجامع(5182) عن المقدامt قال: قال رسول اللهr :" للشهيد عند الله سبع خصال يغفر له في أول دفعة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلة الإيمان ويزوج اثنين وسبعين زوجة من الحور العين ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويشفع في سبعين إنسانا من أهل بيته".
 دفعت الولدانَ الصّغارَ المُخَلَّدينَ الذين يحملون الأباريقَ على حوض رسول اللهr،دفعت شلالات
 من الدّمَاء الزَّكيَّةِ المِسْكِيَّة تزيدُ في قيمَة الدّين والأرض والعرض،دفعت خمسةَ آلاف جريح من الصابرين المرابطين على دينهم وأرضهم وعرضهم ،فما هو حالهم عند الله تعالى ؟ قال رسول اللهr :" من جُرِح جرحًا في سبيل الله أو نُكِب نكبةً فإنها تجئ يوم القيامة كأغزَرَ ما كانت لونها الزعفران وريحها كالمسك "(صحيح: سنن الترمذي 1657) . 
فهل في هذا ما يدعُوا للأسى والحُزن..؟! بل هو شيءٌ يدعُوا للمنافسة والافتخار..وما يلقّاها إلا الصابرون ..!
يـا داميَ العينينِ والكفينِ إنَّ اللَّيْلَ زائلْ
لا غرفةُ السَّجَّانِ باقيةٌ ولا زَرَدُ السلاسلْ
فَحُبُوبُ سنبلةٍ تجفُّ ستملأُ الوادي سنابلْ. .
  أيها الإخوةُ في الله:  ومن حكم الله تعالى ورَحَماته في الحرب بين المؤمنين والكافرين انكشافُ صفّ المنافقين والمُرجفين والمخذّلين،انكشافُهم وافتضاحُهم أمام كلّ عين،قال الله تعالى: )وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين((العنكبوت : 3)،وقال سبحانه: ]وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِين( (العنكبوت:10-11)،وقال سبحانه: ]وليعلمَ الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلمُ قتالاً لاتَّبعناكم هم للكفر يومئذ أقربُ منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلمُ بما يكتمون(167)الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتلوا قل فادرءُوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين((آل عمران:167-168).
 المُرجفونَ والمخذّلون أصنافٌ متعددة،منهم من يلبسُون لباسَ الصُّلحاء،وقلوبُهم قلوبُ الذّئاب وجيوبُهم بأيدي الملوكِ وعُبَّاد المال، ومنهم من يظهرُ في السَّرَّاء بزيّ النُّصحاء الأوفياء،ومنهم من الحُكَّام من كان يظُنُّهُ النَّاسُ راعيَ سلام وخادمَ قضيَّة فلسطين،لما حطَّت الفتنةُ أوزارَها ظهرَ المَعدَنُ وانكشفَ الدَّخَن،و والله لقد سمعناهم وسمعهم النَّاسُ أجمعون كيفَ يقولون : هؤلاء ألقَوا بأنفسهم إلى التهلُكة،سوفَ يُسحقون من طرف أقوى جيش في الشرق الأوسط،لقد ورَّطُوا الناسَ وقتلوا شعبَهم،هذا ليسَ بجهاد ولا يُقال لقتيلهم شهيد،حماس أخطرُ على الإسلام من اليهود،حماس ليسوا من أهل السنَّة والجماعة،وبعضهم ألقى خطبةَ جُمُعة كاملة في بيان أخطاء إخوانه في حماس وكشف عوراتهم ،وبعضٌ آخر يمنعُ من القنوت لهم في الصلوات  .  .سبحان الله يُردّدُ نفسَ قول باراك وأولمرت وليفني..!
  ماذا جنَى هؤلاء من أقوالهم ومواقفهم ..؟! هكذا فعلوا من قبلُ  في حرب الخليج ولبنان،وهكذا فعلوا في استجلاب قوَّات الاحتلال إلى الشرق الأوسط في قلب الإسلام..! وما جنوا إلا العار والخزي والشَّنار، وقولَ الله تعالى:] لقد اتبتَغَو الفتنةَ من قبلُ وقلَّبُوا لكَ الأمور حتَّى جاءَ الحقُّ وظهرَ أمرُ الله وهم كارهون((التوبة: 48).
          نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى،أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :

أيها الإخوةُ في الله:    قال سبحانه:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(محمد:07).  إن الفارق كبيرٌ جدًّا بين واقعنا المخزي وتاريخنا المجيد،ولقد صدق من قال وهو يخاطبنا :" لقد ملَّ آباؤُكم من إطرائكم إياهم،وكأنّي سمعتهم بالأمس يقولون:إن كنتم تفخرون بنا فإنَّا لا نفخرُ بكم،لأنَّ العمالقة لا تلدُ أقزَامًا"[2]،  
ولكننا نتحدث عنهم  من باب قول الشاعر:
                     فعَلِّمْ ما استَطَعْتَ لَعَلَّ جيلاً       سيأتي يُحْدِثُ العجبَ العُجَابَا
الصبرُ في الآباء نبأٌ عظيمٌ من أنبائهم،سطَّروا به في الميدان أروعَ صور النصر والتمكين للحق:
في معركة بدر: كان قوام جيش المشركين نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره،وكان معه مائة فرس وستمائة درع،وجمال كثيرة لا يعرف عددها،وكان قائدُه العام أبا جهل بن هشام،وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش،فكانوا ينحرون يوما تسعا ويوما عشرا من الإبل[3].
أما المؤمنون فكانوا ثلاثمائةً وبضعةَ رجل ليس معهم غيرُ فرسين وسبعين جملاً يتعاقبون على الجمل الواحد بالسويَّة..  / / /    في الطريق قال أبو جهل-وما أشبه الليلة بالبارحة- : والله لا نرجع حتى نرد بدرا،فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر،وتعزف لنا القيان،وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا،فلا يزالون يهابوننا أبدا[4].  
وماذا كانت النتيجة..؟!
 قال r لأصحابه:"قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض،والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة"[5]. فقاموا..
   استقبل نبي الله r القبلة،ثم مد يديه فجعل يهتف بربه(يستغيث به):"اللهم أنجز لي ما وعدتني،اللهم آت ما وعدتني،اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في هذه الأرض"فمازال يهتف بربه،مادا يديه مستقبلا القبلة،حتى سقط رداؤه عن منكبيه،فأنزل الله تعالى:﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾(الأنفال:9)،فأمده الله بالملائكة"[6]وكيف كان حال المؤمنين في الصفوف..؟
 دعكم من حال الكبار وانظروا حال الشباب الصغار: عن عبد الرحمن بن عوف t قال:"بينما أنا واقف في الصف يوم بدر،نظرت عن يميني وشمالي،فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما،تمنيت لو كنت بين أضلع منهما(أقوى وأشد)،فغمزني أحدهما فقال:يا عم؛هل تعرف أبا جهل؟قلت:نعم؛وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟قال:أُخبرت أنه يسب رسول الله،والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده،حتى يموت الأعجل منا،قال:فتعجبت لذلك،فغمزني الآخر فقال مثلها..."[7](هما معاذ بن عمرو بن الجموح،ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما). وفي النهاية اقتتل الفريقان،وكان النصر للمؤمنين،فقتل من صناديد قريش من قتل،وأسر من أسر،وانتهت المعركة بنصر حاسم للمسلمين،ولم يستشهد من المؤمنين إلا أربعة عشر صحابيا..
أيها الإخوة في الله: لقد كان في لقاء المقاومة الفلسطينية مع اليهود نفسُ الآيات والدلائل،في الرجال والنساء والولدان،قلَّةٌ مؤمنة صابرة تقاتلُ على دينها وأرضها وعرضها ضدَّ أكبر جيش في الشرق الأوسط،تعتصمُ في أرضها بنسائها وصغارها رغم الجوع والحصار والدمار،استعملَ اليهود كلَّ الأسلحة لسحق المسلمين في أرض لا تتعدَّى حجم ولاية سطيف،ثلاثةٌ وعشرونَ يومًا من النزال والمصابرة والعالمُ يتفرَّجُ بعربه وعجمه،ثم ماذا  ؟ ؛ اندحرَ اليهودُ وانكسروا كعادتهم أمام هذه القلة المؤمنة الصابرة،وخرجوا متألّمين من ضربات المقاومة،آيةٌ من آيات الله في الصمود والمقاومة ،ولا تعجب فأرضُ فلسطين مباركةٌ بما فيها ومن فيها  :        
                 خلق اللهُ للحروب رجالاً  * * ورجالاً لقصعة وثريد..!
 وربُّكَ يرزقُ المتقينَ بالأسباب وبغيرها وبضدّها..!  فلا تعجب ...!
    نسأل الله التوفيقَ إلى ما يحب ويرضى  . .  اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين  . .
              






[1] - حسن:سنن أبي داود(2520) -مشهور حسن سلمان.
[2] - النظام الدولي الجديد(ص685).
[3] - سيرة ابن إسحاق(1/403*ابن هشام).
[4] - سيرة ابن إسحاق(1/410*ابن هشام).
[5] -أخرجه مسلم (1901)كتاب الإمارة.
[6] -أخرجه مسلم(1763) كتاب الجهاد.
[7] - :أخرجه البخاري(3988) كتاب المغازي،ومسلم(1752) كتاب الجهاد.

هل أعجبك الموضوع ؟

هناك تعليقان (2):

كافة الحقوق محفوظة 2015 © ملتقى النبلاء / المبرمج يوسف حجاب